"أليست صورة مشهد مراحل الغروب هي صورة البشرية نفسها ... ومن ورائها صورة جميع مظاهر الحياة ... بعدما تكون قد أطلقت آخر أنوارها الإصطناعية؟"[1]   هكذا ... يختتم الفيلسوف البنيوي الفرنسي، كلود ليفي شتراوس، آخر تأملاته الحزينة في مشهد غروب الإنسانية، فهناك، من على قمة تل فلسفته الأنثروبولوجية، يصرخ شتراوس بأن "الهدف الأخير للعلوم …

 

“أليست صورة مشهد مراحل الغروب هي صورة البشرية نفسها … ومن ورائها صورة جميع مظاهر الحياة … بعدما تكون قد أطلقت آخر أنوارها الإصطناعية؟”[1]

 

هكذا … يختتم الفيلسوف البنيوي الفرنسي، كلود ليفي شتراوس، آخر تأملاته الحزينة في مشهد غروب الإنسانية، فهناك، من على قمة تل فلسفته الأنثروبولوجية، يصرخ شتراوس بأن “الهدف الأخير للعلوم الإنسانية، ليس تكوين الإنسان، بل حلّه وتفكيكه”[2]

شتراوس، هذا الإله المُضاد! لم يكن الأقنوم الوحيد الذي هوى إعدام الإنسان واغتياله، في صورة مقلوبة لفعل الإله الكلمة الذي كوننا إذ لم نكن، بل اشترك مع أقنومي الفلسفة الآخرين، هيدجر وفوكو، في التنظير لفلسفة موت الإنسان وانتهاؤه، يقول الأخير:

“إن النزعة الإنسانية هي أثقل ميراث انحدر إلينا من القرن التاسع عشر، وقد حان الأوان للتخلص منه، ومهمتنا الراهنة هي العمل على التحرر نهائيًا منها”،” أنَّ الإنسان ليس أقدم مشكلة، ولا أثبتها من بين المشاكل التي واجهتها المعرفة البشرية… أنَّه اختراع حديث العهد، وصورة لم يتجاوز عمرها مائتي سنة. إنَّه مجرد انعطاف في معرفتنا، وسيختفي الإنسان بمجرد أن تتَّخذ المعرفة شكلاً آخرَ”[3]، “لقد حاولت ابراز حداثة هذا المخلوق.”[4]

بينما يُنادي الأول – هيدجر- ويقول: “ألا يتوجب على الفكر أن يحاول المخاطرة ويقوم بوثبة، وبمعارضة مكشوفة للنزعة الإنسانية؟!”، “ليست المسألة التي تشغلني هي وجود الإنسان!” [5]

هذه النزعة العدمية في الفلسفة، ليست فقط “روح العصر” الذي نحياه، أي عصر “موت الإنسان”، وإعدامه على المستوى المفاهيمي، ولا حتي داخل النزعة المادية الإستهلاكية على المستوي العملي، بل حتى داخل الفن والأدب! والذي فيه  – على سبيل المثال – “يتحول غريغور سامسا ذات صباح، إلي حشرة ضخمة!” في رواية “المسخ” لفرانز كافكا، وكأنه يقول، أننا لو جردنا الإنسان من كل ادعاء حول نفسه، لن يتبقى منه سوي الحشرة! حشرة ضخمة مفكرة حقيرة!

هكذا إذًا يتصور الإنسان المُعاصر ذاته، شيئًا أو حيوانًا أو عدمًا، وهكذا أيضًا “لا يُتصور” البتة داخل كنائسنا!، فهو منسيًا ومجهولًا وغائبًا، غير مُفكر فيه، لا نتكلم عنه أو نكرز به، لا نُعلِّم بعظمته وسر تفوقه، ولا نحاول خوض مغامرة التعرف على حقيقته … ولكن هنا … وفي هذا الموضع تحديدًا، تكشف لنا الأرثوذكسية عن نفسها كطريق يتعرَّف فيه الإنسان على حقيقته الإلهية وسره اللامتناهي، هنا، في ذلك الموضع، موضع نسيان الإنسان وهجره، وقعت في غرام الأرثوذكسية مرَّة … وإلي الأبد.

منذ ستة سنوات، في قلب أزمتي الوجودية الصغيرة، حينما كنت لا أزال أنكز وجودي بحثًا عن معنى كبير لساعات يومي الصغيرة، أو أُفتِّش عن نقطة ما داخل عقلي أتلمس فيها ملامح ذاتي الحقيقية، تلك التي بلا رتوش ولا أهواء ولا أقنعة،  وقع في يدي كُتيب صغير، اصدار دير أبو مقار، تحت عنوان: “دعوة الإنسان العُليا، أو القصد الإلهي من إبداع الإنسان، بحسب تعليم آباء الكنيسة”، وهو عبارة عن مقالات مترجمة عن كتاب SOURCES: Les Mystiques Chrétiens des Origines “منابع الروحانية المسيحية في أصولها الأولى”. للفيلسوف الفرنسي المعاصر والعالم الآبائي أوليفييه كليمانت Olivier Clement

 

في كل كلمة قرأتها، كتب الآباء في قلبي “كلمة الإنسان”، كما كتب النار الآكلة قديمًا وصاياه على لوحيِّ العهد … من وقتها، وقعت أسيرًا في حب الأرثوذكسية، تلك التي استردت لي إنسانيتي أخيرًا، وبكلمات مُنيرة، رُدت ليّ نفسي، وأدركت سر الاشتياق للتعاليم الأرثوذكسية، والجوع إليها، والشهوة نحوها، لأن فيها وجدت حقيقتي، إني كإنسان “كائنٌ حي أرضي، نال نعمة خاصة ليصير إلهًا.”[6]، كما قال باسيليوس العظيم.

 

“إعلم أنك عالم كوني آخر، كون مصغر، وأنه يوجد فيك شمس وقمر بل ونجوم أيضًا، ولو لم يكن الأمر هكذا… ما قال الرب لتلاميذه: “أنتم نور العالم” (مت 14: 5 ). فهل تتردد بعد بأن تصدق أن فيك شمس وقمرًا، حينما قال لك إنك نور العالم»؟ أتود أن أسوق لك كلمة إلهية أخرى حتى لا تستصغر نفسك أو تستهين بهذه الحقيقة؟”[7]

العلامة الإسكندري أوريجانوس

 

” إن هذا المخلوق العجيب يجمع في كيانه، في نفس الوقت، بين واقع أرضي وحقيقة سماوية، بين ما هو غير ثابت وما هو خالد، بين المرئي وغير المرئي. هو وسط بين العظمة والعدم، فهو: جسد وروح… كائن حيواني أرضي ولكنه ينزع ويتطلع إلى وطن أفضل، إنه يبلغ غايته ويكتمل سره عندما يصير متمثلا بالله، بتوافقه التلقائي مع المشيئة الإلهية وارتضائه بها تماما بنية خالصة.”[8]

القديس غريغوريوس النزينزي

 

” كلمة الله تناول جزءًا صغيرًا من الأرض التي أبرأها حديثًا، وصاغ بيديه الأبديتين جبلتنا البشرية وبث فيها الحياة: لأن النسمة التي بعثها في الإنسان هي انبثاق من لاهوته المستتر اللامنظور. وهكذا من التراب ومن نفخة القدير أُبدِعَ الإنسان على صورة الحي الأبدي… فبصفتي من الأرض أجد نفسي مرتبطًا بالحياة الحاضرة، ولكن لأنني أحمل أيضًا في كياني قبسا من الألوهية، لذا أجد قلبي منشغلا بالتوق إلى الحياة الأبدية الآتية.”[9]

القديس غريغوريوس النزينزي

 

“إعرف مقدار المجد الذي كرَّمك به بارئك فوق كل الخليقة. فالسماء لم تجبل على صورة الله، ولا الشمس بعظمتها ولا النجوم ببهائها، ولا شيء مما يمكن أن يُرىَ في سائر الخلائق. ولكن أنت وحدك (كإنسان الذي أُبدعت على صورة الحق الذي يفوق كل إدراك عقل، وعلى مماثلة بهائه الذي لا يبلی، على طابع لاهوته الحقيقي؛ على أن ترث فرح مجده و تنعم بنوره إلى الأبد. لأنك عندما تتطلع إليه ستصير على ما هو عليه.. لا يوجد شيء بين الكائنات الأخرى مهما عظم يمكن أن يقارن بهذا السمو الذي بلغت أنت إليه. لأن الله الكلي القدرة الذي يقيس السماء بشبره والأرض والبحر هما في قبضة يده، ومع أنه كلي العظمة بهذا المقدار حتى إنه يحمل الخليقة كلها ويحتويها على كفه، تنازل هو إليك وحل في قلبك، فأمكنك أن تحتويه في داخلك، وارتضي أن يسكن فيه دون أن ينحصر أو يتضايق لسريانه في كيانك، فهو الذي قال: «سأسكن فيهم وأسير بينهم.» (2كو 16:6)”[10]

القديس غريغوريوس النيصي

 

يُتبَع …

 

 

 [1] – كلود ليفي شتراوس، الإنسان العاري

 [2] – كلود ليفي شتراوس، الفكر المتوحش.

 [3] فوكو، ميشال. الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع صفدي، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990م

 [4] – د. عبدالرازق الداوي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، صـ 127 /  عن حوار معه في Art Le Loisirs  يونيو 1966.

  [5]  – د. عبدالرازق الداوي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، صـ 53

[6] – Paroles de S. Basile de Césarée rapportée par Grègoire de Nazianze

[7]ORIGÉNE: Cinquième Homélie sur Lévitique,2 (GCS6,336-337)

 

[8] GRÉGOIRE DE NAZIANZE: Discours 45, pour la pâque, 7 (PG36,850)

[9] GRÉGOIRE DE NAZIANZE: Poèmes Dogmatiques, 8 (PG37,452)

[10] GRÉGOIRE DE NYSSE, Deuxième Homélie sur la Cantique des Cantiques (PG 44,765)

الوسوم:

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *