تقديم عودة على ذي بدء: عرضنا في مقدمة كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية» (ه) ما تعانيه الكنيسة في الحاضر من شُح وجفاف في الحياة الروحية، وحاجة الكنيسة إلى جيل يتذوق جوهر الأرثوذكسية من نسك وعبادة وتصوف . ونظن أن الكتاب قد ألقى شعاعاً على الدروب العتيقة التي مرت فيها أقدام القديسين وأزاح ما تراكم على …
تقديم
عودة على ذي بدء: عرضنا في مقدمة كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية» (ه) ما تعانيه الكنيسة في الحاضر من شُح وجفاف في الحياة الروحية، وحاجة الكنيسة إلى جيل يتذوق جوهر الأرثوذكسية من نسك وعبادة وتصوف . ونظن أن الكتاب قد ألقى شعاعاً على الدروب العتيقة التي مرت فيها أقدام القديسين وأزاح ما تراكم على هذه الدروب من إهمال وجهل ونسيان خلفته ثلاثة عشر قرناً من الزمان .
ونكاد نطمئن أن هناك أقداماً بدأت تسير على ذات الدروب….
..
أما هذا الكتاب، «الكنيسة الخالدة فقد ألزمتنا الضرورة بكتابته ؛ لأنه لا غنى للسائرين في دروب الخلاص عن التعرف على كنيستهم كمصدر للنور لازم
للطريق.
ولكن الداعي الأول لكتابة هذا الكتاب بلا مراء، هو هول ما نحسه مما يعانيه المؤمنون في هذا العصر من تقاعس فكري أصاب الكنيسة، إذ عفت عقول قادتها عن الدراسات العميقة في الكتاب المقدس، فانقطع بالتبعية سيل الروح القدس من الإنتاج الفكري، سواء الوعظي أو الكتابي ؛ وانكمشت المفهومات اللاهوتية في إطار ضيق من المحفوظات العقلية دون أن تجد لها مجالاً في السلوك ؛ وتجنب الوعاظ بل والمدرسيون أيضاً الحديث عن اللاهوت وإن طرقوه ففي حذر ورعدة، والتزموا الكلمات المحفوظة التي جفت مدلولاتها في عقول السامعين بسبب عدم انسجامها مع الواقع الشعوري في حياة الإنسان ؛ حتى باتت الكنيسة في عوز لاهوتي ؛ وتضاربت التعاليم وفلت ،زمامها وانحصرت الكرازة في دوائر ضيقة لا تتماس مع بعضها بل تتجه نحو غايات ليست من روح الكنيسة وأبعد ما تكون عن الخلاص؛ لذلك لا نراها مثمرة لأنها لا تعمل لحساب المسيح.
…
نحن ندعو إلى نهضة فكرية ووعي لاهوتى يكون أساسه إعادة اكتشاف حقوقنا في شخص المسيح، فنستقبل منه النعمة والحق (يو) : ۱۷)، ونتعرف على ( خلاصنا المجاني في شركة لاهوته ، فتستعيد الكنيسة حياتها الإلهية حسب منهجها الأرثوذكسي الأول ؛ وينجمع شمل المؤمنين في وحدة الفكر والإيمان والصلاة. وليعلم القارىء أن أمراض هذا الجيل سواء كانت إجتماعية أو نفسية أو إقتصادية أو حتى الجسمية منها فهي ناشئة جميعاً عن اختلال في العلائق التي تربط الإنسان بالله . وهذه لن يتم علاجها إلا عن طريق روح الإنسان، وروح الإنسان لا تعالج إلا بجرعات لاهوتية حية .
وكتابنا هذا على مستوى لاهوتى حي، سهل في معناه وفي أسلوبه ، لأن اللاهوت في عُرفنا أسهل وأقرب إلى وجدان الإنسان من أي علم آخر طالما كان من واقع الإحساس والخبرة والسلوك، لا من واقع المنطق والقياس والبرهان الجدلي.
ونحن هنا في المقدمة نبدأ بتصحيح أوضاع ومسميات أخذت مجراها الخاطىء عبر السنين نود لو ينتبه لها ذهن القارىء جيداً حتى يتهيأ لفهم هذا الكتاب :
من هي الكنيسة ؟
هل الكنيسة هي اجتماع المؤمنين في مكان ما زماناً ما، كما يقول المدرسيون، وكفى ؟
لا ؛ فالكنيسة شخصية حية جامعة قوامها جسد المسيح السري وأعضاؤها هم المؤمنون بالروح والحق. وهي تنمو باستمرار نحو غاية مرسومة لها قبل الدهور، وتتحرك بلا توقف ولا نكوص ؛ ماضيها حي ومستقبلها حاضر دائماً ؛ فالزمن يتحول فيها إلى حكمة، والألم إلى شهادة والضيق إلى إيمان… الآلام في الكنيسة ليست غريبة عن طبيعتها ولا هي تعتبر كعمل ثانوي لها ، لأن المسيح لم يوضع عليه الألم كعمل إضافي بل كان الألم غاية التجسد !! والكنيسة هي جسد المسيح .
والمؤمنون المتحدون في جسمها يظلون أحياءً فيها لا يفصلهم الموت عنها لأن جسمها هو المسيح، فالذين عاشوا في الدهور ،السالفة فيها إلى الآن يعيشون، ومعنا يعملون، في وحدة الأسرار، وفي وحدة الصلاة والشفاعة المتبادلة !!
والذين هم فيها الآن لا يُحسبون أنهم فيها أو أنهم منها إلا إذا كان فيهم روح الكنيسة ، روح الكنيسة هو شركة مع المسيح وشركة مع الفقير.
شركة المسيح إيمان حي مستعد للشهادة حتى سفك الدم، وشركة الفقير لقمة
مقتسمة .
ثم ماذا في الكنيسة ؟
أهي مجرد أعياد وقداسات وقناديل وتذكارات و بخور وتسبيحات، كما يراها الطقسيون، وكفى ؟ ولا؛ فالكنيسة تقدم شركة حية في الأسرار الإلهية ؛ ليست هي ممارسات شكلية أو فرائض تأتى بثمارها من تكرارها بل هي دخول إلى الله الحي، هي سكب النفس أمام المذبح وانطراح كلي تحت رجلي الله باتضاع شديد وانكسار.
الكاهن يقدم نفسه ذبيحة بالصلاة، ويمهد بحياته وقدوته أن يقدم الشعب كله ذبائح نفوسهم الله طاهرة من عيب الأنانية ومحبة المال والعالم.
القراءة في الكنيسة توسل، التسبيح تضرع البخور صلاة بلا عيب، القناديل تشفع وإيمان القداسات اقتراب إلى عرش الله ودخول في منطقة النار الإلهية، وشركة في القدس.
الأعياد ذكرى دموع وذكرى دماء، هي دعوة للبذل، هي قدوة للحب، هي شركة في جهاد واحد .
الكنيسة تمهد بالطقس طريقاً روحياً سرياً يسلكه المؤمنون ؛ وبالكرازة وخدمة الكلمة تنير ذهنهم فيتجددوا كل يوم وكل مرة بالمعرفة ؛ يتغيرون عن شكلهم بـتـجـديـد أذهانهم ليبلغوا بواسطة المعرفة إلى حياة أبدية . غاية كل طقس وكل عبادة هذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك و يسوع
المسيح الذي أرسلته . » (يو٣:١٧)
وما هي أرثوذكسية الكنيسة؟
هل هي منطوق نظريات لاهوتية وقوانين لعقيدة صعبة ليس للعامة أن يخوضوها، كما ينظر إليها العقائديون ؟
لا ؛ الأرثوذكسية هي حياة روحية صحيحة، هي شركة مع الآب والإبن على مستوى إيماني حي
أرثوذكسية الكنيسة ليست هي منطوق نظريات لاهوتية ؛ ولكنها تطبيق عملي المبادىء لاهوتية سليمة .
ليست الأرثوذكسية قوانين لعقيدة صعبة لا يجوز للعامة أن يخوضوا فيها ؛ ولكن الكنيسة الأرثوذكسية هي العامة أنفسهم حينما يعقلون اللاهوت و ينطقون العقيدة ويحيون الإيمان .
الأرثوذكسية مجرد كلمة تعني الإستقامة أو الصحة في معنى الشيء أو مفهومه ، هي تطلق على نظريات العلم وفي الطبيعة والكيمياء وفي أي شيء يمكن أن يكون صحيحاً .
أما الكنيسة الأرثوذكسية فهي المؤمنون حينما يعيشون حياة كنسية صحيحة، هي جسد الرب كما عرفناه تماماً وحسب الحق. لا يمكن أن توجد كنيسة أرثوذكسية إلا إذا وجد مؤمنون عارفون بالحق الإلهي تماماً، يؤمنون بالتجسد إيماناً صحيحاً و يشتركون في هذا الجسد إشتراكاً فعلياً، ثم يعيشون بالحق والإيمان وفاعلية الشركة في جسد الرب .
العقيدة والإيمان لا ينشئان كنيسة .
ولا الذين يعتقدون صحيحاً و يؤمنون صحيحاً يبنون الكنيسة. الكنيسة مؤمنون يعيشون باعتقاد صحيح الأرثوذكسية الكنسية: عقيدة، صحيحة، حية، في
مؤمنين !!
وما هي حدود الكنيسة الأرثوذكسية ؟ هل الكنيسة الأرثوذكسية وقف على جماعة خاصة وشعب مختار دون الجماعات ودون الشعوب، كما يراها المتزمتون ؟
لا الكنيسة الأرثوذكسية روح الله في هيكل الإنسانية، فهي عامة وجامعة، صالحة ومستعدة لقبول أشتات الإنسان الذي عذبته الإتجاهات السلبية في أنحاء كل العالم. هي خميرة أصيلة حرة كريمة، تحملها رياح النعمة بسهولة بواسطة المؤمنين لتبذرها في كل مكان على وجه كل الأرض !! هي صوت صارخ يدوي في
كل براري العالم المقفرة روحياً، ينادي بملكوت الحق والمحبة والحرية والسلام.
فكما المسيح للعالم كله وهو نوره، وكما الإنجيل للعالم كله وهو مصباحه، كذلك الكنيسة الأرثوذكسية يجب أن تكون كذلك بلا تحفظ ولا احتياط !! فالحق الذي فيها هو المسيح، والحق إذا خُشي على ضياعه ليس هو من المسيح !! والنور الذي فيها هو الإنجيل، والنور إذا خُشي عليه من الظلمة ليس هو من الإنجيل !!
الكنيسة الأرثوذكسية لها روح النبوة، هي محفوظة ليوم الشهادة، وحينما تعي نفسها سوف تنطلق لتبشر العالم كله بالحب والبذل والإخاء، في وضوح الحق و برهان الروح والقوة .
الكنيسة الأرثوذكسية : هي استعلان حقيقي لملكوت الله جزئياً، هي صورة له في مرآة، تتضح لمن يتفهمها بلا تحيز وستزداد كل يوم وضوحاً بواسطة الخدمة .
ثم ماذا عن وطنية الكنيسة الأرثوذكسية ؟
هل الكنيسة لا تسمح اتجاهاتها الروحية وعقائدها أن تهييء من أولادها مواطنين أقوياء يحاربون عن الدولة ويحملون عبء الرسالة السياسية والإضطلاع
بشئون الوطن كما يقول المتخلفون ؟
يخطىء من يقول بهذا القول ….
فالكنيسة مصدر الهبات الفكرية العليا والمبادىء والمُثل الروحية، بل والأخلاق والفضيلة والفن السليم… وهل يمكن أن تتكون شخصية المواطن تكويناً روحياً وأخلاقياً سليماً إلا في الكنيسة ؟
والكنيسة وإن كانت ليست مؤسسة سياسية ولا يمكن أن تكون حزباً، ولا تؤازر المتحزبين لأي إتجاه دنيوي لأنها الله تعيش وليس للعالم، إلا أنها تهييء أولادها لمواجهة الدنيا، فهي أول ما تبني تبني الفرد، تبنيه على عدم الإثرة أو الأنانية؛ فتلقنه الفداء وتعرّفه المحبة المضحية، وتهبه قوة للبذل، وتسلمه تراثاً كريماً زاخراً بأمثلة حية من آباء ماتوا في سبيل الإيمان والشرف والفضيلة والحق ! وهل يمكن أن تقوم شخصية المواطن بغير هذه الأخلاق؟
يخطىء من يظن أن الكنيسة تنكر على أولادها أن ينخرطوا في الحرب أو يحملوا هم الوطن . فالكنيسة تأمرك فقط أن تتهاون بحياتك أنت وتستهين بمالك أنت وتحب عدوك أنت . ولكنها ما تأمرك قط أن تتهاون بحياة قريبك أو بماله أو أن تحب عدوه وتتهادن معه؛ بل فداءً تـفـتـدي قريبك بروحك ودمائك، ووطنك هو قريبك لأنه يحمي حياتك ويحمي كنيستك !!
الكنيسة تقول لك أعط ما لقيصر لقيصر ( راجع متى ٢١:٢٢)؛ فإذا أعطتك
لقيصر فقد أدت رسالتها كاملة تجاه الوطن !!
الكنيسة تقول لك أن ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله » ( رو۱۳ : ۱)؛ حتى تطمئن أنت أنك حينما تخضع لقيصر فأنت خاضع الله وتكون أخليت أنت مسئوليتك تجاه الضمير !!