سوف نناقش في هذا البحث ماهية ومفهوم الغضب الإلهي في فكر وكتابات القديس كيرلس الإسكندري، الملقَّب بـ ”عمود الدين“، حيث يُعد ق. كيرلس سليل مدرسة الإسكندرية اللاهوتية العريقة، والوراث لتراثها العميق والمؤثر في العالم المسيحي كله. وبالتالي، يُعد ق. كيرلس امتدادًا لفكر آباء كنيسة الإسكندرية العظام أمثال: العلامة كليمندس الإسكندري، والعلامة أوريجينوس الإسكندري، والعلامة ثيؤغنوستس، …

سوف نناقش في هذا البحث ماهية ومفهوم الغضب الإلهي في فكر وكتابات القديس كيرلس الإسكندري، الملقَّب بـ ”عمود الدين“، حيث يُعد ق. كيرلس سليل مدرسة الإسكندرية اللاهوتية العريقة، والوراث لتراثها العميق والمؤثر في العالم المسيحي كله. وبالتالي، يُعد ق. كيرلس امتدادًا لفكر آباء كنيسة الإسكندرية العظام أمثال: العلامة كليمندس الإسكندري، والعلامة أوريجينوس الإسكندري، والعلامة ثيؤغنوستس، والقديس ديونيسيوس الإسكندري، والقديس أثناسيوس الرسولي، والعلامة الإسكندري ديديموس الضرير.

لماذا نبحث موضوع الغضب الإلهي في فكر ق. كيرلس؟

لأنه كثُر اللغط في أيامنا هذه حول لاهوت ق. كيرلس الإسكندري، حيث يدَّعي البعض عن جهل ودون وعي بأن لاهوت ق. كيرلس الإسكندري يتشابه مع اللاهوت الغربي اللاتيني ممثلاً في العلامة ترتليان، وأوغسطينوس أسقف هيبو، ولاون الكبير، وغريغوريوس الكبير، أو مع لاهوت العصر الوسيط ممثلاً في أعلامه أنسلم الكانتربري، وبرنارد من كليرفو، وتوما الأكويني، أو مع اللاهوت البروتستانتي ممثلاً في رجالاته مارتن لوثر، وفيليب ميلانكتون، وجون كالفن. فأرادنا توضيح الاختلاف الشديد والعميق في لاهوت ق. كيرلس الإسكندري عن هؤلاء في موضوع الغضب الإلهي.

الله عديم الهوى أو الأباثيا في الله

معروف في اللاهوت الشرقي اليوناني أن الله يتميز بالأباثيا أو اللاهوى، أي أنه غير خاضع للأهواء البشرية المتغيرة والمتبدلة من حال إلى حال في الطبيعة المخلوقة، بل الله ثابت كما هو في ذاته على الدوام لا يتغير ولا يتبدل من حال إلى آخر، ولا يخضع للأهواء البشرية من الغضب، والاضطراب، والكراهية، والحنق، وغيرها من الأهواء البشرية التي يستحيل وجودها في الله. وحتى لو استخدم الكتاب المقدس هذه التعبيرات البشرية الغريبة عن طبيعة الله كما هي في ذاتها، ولكن هذا من أجلنا نحن بسبب قصور وضعف لغتنا البشرية في التعبير عن الطبيعة الإلهية كما هي في ذاتها. وتُعتبر التعبيرات البشرية في الكتاب المقدس هي مجرد إسقاط على حالة الإنسان في علاقته مع الله.

لذا يقول ق. كيرلس الإسكندري أن الله استخدم في العهد القديم تعبيرات بشرية عن ذاته بسبب تنازله من نحونا لأجل مساعدتنا وبسبب استعمال اللغة وعجزها كالتالي:

”ورغم أنك قد تقول إن الله قال في كتاب العهد القديم لليهود: ’أصوامكم وأعيادكم بغضتها نفسي‘ (أنظر إش 1: 13، 14 سبعينية)، وتعبيرات أخرى مشابهة، إلا أننا نقول إنه استعمل طريقتنا في الكلام، خاصةً بسبب تنازله من نحونا لأجل مساعدتنا، وبسبب استعمال اللغة وعجزها، فهو يتحدث عن طبيعته غير الجسدية على أن لها وجهًا، وعيونًا، وأعضاءً أخرى“.[1]

كما يشير ق. كيرلس إلى أننا ينبغي أن نوجه اللوم إلى فقر لغتنا البشرية التي لا تستطيع التعبير عن الحقائق الإلهية بطريقة مناسبة قائلاً:

”فلا ينبغي أن نعثر بسبب هذا، بل بالحري ينبغي أن نوجه اللوم إلى فقر لغتنا البشرية، التي لا تستطيع أن تعبر عن الحقائق الإلهية بطريقة مناسبة. فما هي اللغة التي تكفي أن تشرح طبيعة الله ومجده اللذين يفوقان كل تعبير“.[2]

وهكذا نرى ق. كيرلس الإسكندري يؤكد على أن الله عديم الهوى أو خالي من الهوى απαθής أي الأهواء البشرية كالتالي:

”وبما أن الابن يُقارن بالآب من جهة الأعظم والأدنى، وهذه المقارنة تقع خارج الهوى، خاصةً وأن الله عديم الهوى απαθής، وبما أن الآب لا يتفوق على الابن، باعتبار أن الابن له نفس جوهر الآب، ولا يمكن للابن أن يعاني شيئًا أو يتأثر بشيءٍ، فالقول ’أعظم‘، إنما يُقال فقط من جهة بداية الابن الأزلية من الآب“.[3]

كما يؤكد ق. كيرلس الإسكندري مثله مثل جميع آباء الشرق اليوناني، وبالخلاف عن اللاهوت الغربي اللاتيني، ولاهوت العصر الوسيط، واللاهوت البروتستانتي، على أن الله هو هو دائمًا، لا يتحول ولا يتغير من حال إلى حال، وأن عدم التغير في الله ليس صفة عرضية، بل يرجع إلى جوهر الله نفسه كالتالي:

”بينما الله فوق كل ذلك، والنفس الإنسانية عُرضة لتقلبات كثيرة من الصالح إلى الطالح، ومن الطالح إلى الصالح، ولكن الله هو هو دائمًا، صالح إلى الأبد، ولا يتحول ولا يتغير من حال إلى حال. وعدم تغيُّر الله ليس صفةً عرضيةً، بل يرجع إلى جوهره“.[4]

ويشير ق. كيرلس أيضًا إلى احتمال الله للبشر الذين يصبون جام غضبهم عليه، ليكون هو نفسه مثالاً للهدوء الكامل الخالي من الأهواء كالتالي:

”فقد أتى مخلصنا مرةً إلى قرية السامريين بالقرب من اليهودية؛ فلم يقبلوه وثار التلاميذ بسبب هذا الأمر، وقالوا له: ’يارب أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم‘ (لو 9: 52-56). فأنتهرهم المخلص ورفض أفكارهم. لأنه لم يأت كإله ليستخدم قوته الإلهية ضد أولئك الذين يصبون جام غضبهم عليه، بل بالحري ليعلِّمنا أن نحتمل ونصبر في كل الضيقات، وليكون هو نفسه مثالاً للهدوء الكامل الخالي من الأهواء. لذلك قال أيضًا: ’تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب‘ (مت 11: 29)“.[5]

الله لطيف في غضبه

وهكذا يؤكد ق. كيرلس على أن طبيعة الله هي طبيعة بسيطة، وحتى إن كانت أفعاله متنوعة، ولها إرادة بسيطة حكيمة، فما يعمله الله في غضبه هو نتيجة لطفه، وهكذا ينسجم غضب الله مع لطفه كالتالي:

”هل لمجرد أن قُلنا إن الطبيعة الإلهية طبيعة بسيطة، ينكرون أن تكون أفعال الله متنوعة. يجب عليهم أن يعرفوا أن هذه الطبيعة لها إرادة بسيطة حكيمة، وليس إرادات متعددة، وذلك لأن الله يمكن أن يلوم الذين يمدحهم، ويؤدب الذين يحبهم. والذي يعمله الله في غضبه هو نتيجة لطفه، وهكذا فغضب الله ينسجم مع لطفه. وأنا أريد أن أُضيف شيئًا آخر: إن اللاهوت طبيعة واحدة بسيطة، ولكنه أيضًا هو الحياة والقوة والحكمة والمجد“.[6]

ماهية الغضب الإلهي غير المدرَكة

يشير ق. كيرلس إلى أن الجوهر الإلهي غير خاضع للأهواء البشرية مثل الغضب، ويوضح أن غضب الله يكون بالطريقة المعروفة لنفسه فقط وبطريقة طبيعية بالنسبة لذاته وحده، لأن طرقه لا يمكن النطق بها على الإطلاق كالتالي:

”حينما يريد الكتاب الإلهي أن يعبر عن غضب الله ضد الخطط الشريرة من أي نوع، فهو يقتبس الكلمات من التعبيرات المستعمَلة بيننا، ويتحدث عن الغضب بعباراتٍ بشريةٍ؛ رغم أن الجوهر الإلهي غير خاضع لهذه الأهواء بأي طريقة يمكن مقارنتها بمشاعرنا، ولكنه يتحرك بالسخط بالدرجة المعروفة لنفسه فقط، وبطريقة طبيعية بالنسبة لذاته وحده، لأن طرقه لا يمكن النطق بها على الإطلاق. ولكن الكتاب الإلهي، كما قُلنا، يسجل أشياء أعلى بكثير من قدرتنا البشرية“.[7]

[1] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج 2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرين، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، ص 76.

[2] المرجع السابق، ص 333.

[3] كيرلس الإسكندري (قديس)، الكنوز في الثالوث، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2011)، 11: 6، ص 138، 139.

[4] كيرلس الإسكندري (قديس)، حوار حول الثالوث، ترجمة: د. جوزيف موريس فلتس، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2018)، الحوار الأول، ص 16.

[5] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج 2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرين، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، ص 427.

[6] المرجع السابق، الحوار الثاني، ص 70.

[7] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج 2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرين، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، ص 108.

الوسوم:

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *