هذه هي الحقيقة إذا .. ارتحال مستمر لا يسكن .. غاية كلما تقترب منها خطوة تفر منك أميالا .. لتظل متأججا بالشوق .. ربما الحقيقة هي ارتحال الأشواق ليس إلا! بدأت رحلتي البسيطة منقلبا وثائرا على كل الموروث والمتعارف. يقولون لك: التعليم منذ الصغر كالنقش على الحجر. ربما جئت أنا في تلك المرحلة لأهشم هذا …
هذه هي الحقيقة إذا .. ارتحال مستمر لا يسكن .. غاية كلما تقترب منها خطوة تفر منك أميالا .. لتظل متأججا بالشوق .. ربما الحقيقة هي ارتحال الأشواق ليس إلا!
بدأت رحلتي البسيطة منقلبا وثائرا على كل الموروث والمتعارف. يقولون لك: التعليم منذ الصغر كالنقش على الحجر. ربما جئت أنا في تلك المرحلة لأهشم هذا الحجر وأساوي تلك النقوش بالتراب. ربما لمسة إلهية تلك التي أججتني للثوران والتمرد!
كان حدسا جارفًا، لا يرتكز على معرفة عقلانية واضحة، يرفض كل تلك الصور عن الإله. كان واضحا وضوح الشمس أنهم يعبدون إلها ساذجا تافها على صورتهم ومثالهم. لا يعرفون سوى مسيحا هزيلا يداعب هشاشتهم النفسية، لم يعد يشبعني.
كان حدساً تقياًّ ذاك الذي أجَّجَ قلبي أن الحقيقة لا يمكن أن تكون بتلك السذاجة. لابد لها أن تكون شيئاً يدعو للذهول على الأقل! لابد للحقيقة أن تصل أبعد مما كان لمخيلتي القدرة على التصور وأن مرماها لابد أن يتجاوز أفكاري. يا إلهي! كأنني كنت أبحث عن لاهوت الكنيسة قبل أن أعرف حتى بوجوده! كنت جالساً على شاطئ الأردن، بجانب المعمدان، منتظراً المسيح.
ثم يأتي فلاديمير لوسكي “بحث في اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق” ليأخذني من يدي ويصعد بي عاليا فوق قمة الجبل الشامخ. تعال وانظر؛ إنهم آباء الكنيسة ولأول مرة تراهم! يا إلهي! من هؤلاء الرجال ومن أين أتوا؟ عشاق .. فلاسفة .. متصوفون .. يلتحفون بنور المسيح. هؤلاء هم الذين قُبِروا حقا مع المسيح، فقاموا معه وأقاموني معهم أيضا.
أخيرا وجدت ضالتي، وانفتح الباب أمامي لأرتحل مرة أخرى. بل أدركت يومها أنني رغم كل هذا ربما لا أعتبر حزمت حقائبي بعد! نور يشع من تلك السطور، نور أنار حياتي وقلبها رأسا على عقب. تعرفت في صحبة الكتاب على أغلب آباء الكنيسة وتقابلت ولأول مرة مع معشوقي، ذاك الرجل الذي لم تنجب امرأة مثله في عصر الآباء، غريغوريوس النيسي.
لم يكن انجذابي لآباء الكنيسة نوعا من الارتكاس الأصولي الغبي، ومن ثم هجرا للحرية. إنما كان مزيدا من الحرية. إن أقصى إمكانات الإنسان لا تتجلى إلا بالحرية وبفلسفة تسعى إثر تخصيب الحرية. تلك حقيقة لا مراء فيها بالنسبة لشخص مثلي. فما كانت مسيحية الآباء- المفكرين منهم بالطبع- سوى تلك الفلسفة التي أشتهيها.
تصل الرحلة إلى الغليان مع العارف الروسي؛ نيكولاي برديايف. تارة ألتهم كتابات الرجل بشراهة كأن نهاية العالم غداً وتارة أخرى أتمعن في كلماته خوفاً أن يأتي عليا ذلك اليوم الذي لا يتبقى فيه جديدٌ لأقرأه! ولكن كيف وكلمات الحرية لا يجف حبرها أبدا. نادراً أن تقابل روحاً تشبهك إلى تلك الدرجة. ليس الرجل أرثوذكسياً بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، فبالرغم أنك تشتم رائحة الأرثوذكسية العطرة في كل خطوة يخطوها، لكنه من ذلك النوع الذي ينغلب دائما للحرية على حساب كل شيء. إذ ليس للرجل آباء بالمعنى الأعمى التقليدي، فعلاقة الرجل بآباء الكنيسة مرتبكة جدا، فالبرغم من انفعام فلسفته بالمستيكية الشرقية وبالخطوط الآبائية العريضة إلا أن قلبه يغلي بمشكلاتٍ عصية على الآباء. مقامه عندي مقام الشيخ الروحاني. ذلك الشيخ الذي سلك كل دروب الحرية الوعرة فمهدها لأمثالي بنور المسيح.
أكتب اليوم وأنا أحمل في قلبي إيقاعا موسيقيا ونغما خاصا. لا يستميلني من الأفكار إلا ما يشبه ألحاني، ولا تجذبني فلسفة لا تتعشق بتروسي، ولا أُعَرِّج إلا على تلك الطرق التي تناديني للمزيد من الحرية. اللهم أني لا أحسب إيقاعي إلا ما تشكل في قلبي بعطف المسيح، ولا أحسب تلك الأنغام التي تستميلني إلا سيدنا أيضا، وهو يتنكر في رداء الفكر والحكمة البشرية.