قد يكون أسوأ فخ ممكن يقع فيه أي شخص بيقترب من الأرثوذكسية، هو أنه يستخدم الكلمات والمصطلحات وكأنها كود code أو مجرد كلمات حاملة لدلالات. الكلمات مش أداة معرفة في حد ذاتها ولا هي علامات أو إشارات بتدل على الطريق. الكلمات في الأرثوذكسية بالأحرى هي أدوات نعمة سرائرية، أسرار محتاجة تتفتح وتنكشف علشان تطلع …
قد يكون أسوأ فخ ممكن يقع فيه أي شخص بيقترب من الأرثوذكسية، هو أنه يستخدم الكلمات والمصطلحات وكأنها كود code أو مجرد كلمات حاملة لدلالات.
الكلمات مش أداة معرفة في حد ذاتها ولا هي علامات أو إشارات بتدل على الطريق.
الكلمات في الأرثوذكسية بالأحرى هي أدوات نعمة سرائرية، أسرار محتاجة تتفتح وتنكشف علشان تطلع معانيها.
الكلمات في الأرثوذكسية نقدر نقول أنها “غير مفهومة” للعقل بكل عقلانيته، لكنها “مختبرة” و “حية” للقلب النقي وللذهن الحاضر. ده باختصار لأن الكلمة في الأرثوذكسية هي اللوجوس ذاته، واللي مودع فيه كل الأسرار، وكل المعاني، وكل الحقايق.
اللوجوس سر لا يستوعبه العقل، ولكنه يَسكُن ويَنكَشِف في القلب.
وهنا مهم جدًّا نفرق بين كلمة سر بمعنى mystery وسر بمعنى secret. المعنى الأول معناه أنه لازم ينكشف أو يُعلن علشان يبقى تمّ؛ لكن المعنى التاني معناه أنه بيفقد معناه ومش بيتمّ لو انكشف أو اتعلن.
في القصة المسيحية، أسرار الله mysteries، أو باليونانية μυστήριον(mystērion)، وليستْ أسرار secrets. ربما الإنسان كان فاكر أنها secrets لحد ما أُظهر بالتجسد أنها ميستيريون، أنها متاحة للإنسان يدخلها ويكتشفها وينفتح عليها. بحسب فهمي، في اليونانية ميستيريون أصلها μυέω (mueō) واللي معناها إغلاق الأعين والفم، وبتستخدم للدلالة على الإنفتاح على خبرة سرارئية. في الأرثوذكسية، الميستيريون مش مجرد سرّ بيتعرف بمعلومة أو لغز بيتحل، لكنه خبرة وجودية ومواجهة كيانية وجهاً لوجع مع النعمة الإلهية.
وهكذا، فالانفتاح على الحقيقة وانكشافها هو الآليثيا ἀλήθεια. مصطلح الآليثيا في ترجمته الحرفية للعربية هو الحقيقة، لكن المصطلح أعمق من كده بكتير. المصطلح معناه مش مجرد حقائق ثابتة وجامدة زي 1+1=2 أبدًا، لكن الكشف عن الحقيقة أو إزالة الستار عنها. الآليثيا عملية دينامكية تستدعي إزالة الستار عن الميستيريون، ورغم أن الآليثيا هي عملية الكشف عن السر ورؤيته، إلا أن السر ذاته بيستدعي إغلاق الأعين والفم الخاصين بالجسد وانفتاح أعين وفم القلب للدخول إلى داخل الحضن الإلهي ورؤية جمال اللاهوت. الآليثيا لا تُدرك بل تواجَه وجها لوجه، ولا تُستنتَج بل تنكشف.
[أنا هو الطريق والآليثيا والحياة…] (١)
القديس بولس بيتكلم عن السرّ المعدّ قبل تأسيس العالم وبيقول:
[ذلك الميستيريون الذي ظل مكتومًا طوال الدهور والأجيال وكُشِفَ اليوم لقديسيه، فقد أراد الله أن يعلمهم أي غنى هو غنى مجد ذلك الميستيريون عند الوثنيين، أي أن المسيح فيكم وهو رجاء المجد. به نبشر فنعظ كل إنسان ونعلم كل إنسان بكل حكمة لنجعل كل إنسان كاملا في المسيح.] (٢)
الميستيريون هو غاية خلق الإنسان، وهو دافع التجسد. رؤية الآليثيا داخل الميستيريون هي علاقة شخصية مع الكلمة المتحد بالإنسانية والحال في وسطها:
[والكلمة صار بشرًا وحلَّ فينا/سكن بيننا] (٣)
الله لم ينتظر الإنسان أنه يوصل لأسرار الحياة الإلهية ويصعد لمجد اللاهوت لأن ده مستحيل، لكنه هو اللي جه بالأسرار دي للعالم وخلاها متاحة للإنسان من داخل قلب حياة الإنسان نفسه، واحتضن الإنسانية وصعد بها للحياة الإلهية متحدًا بها اتحاد لا يمكن أبدًا يشوبه أي انفصال.
القديس مكسيموس المعترف، بيقول أن التجسد هو غاية الخلق، مش مجرد رد فعل إلهي تجاه السقوط:
[هذا السرّ هو النهاية المُباركة، والتي لأجلها خُلِقَ كلُّ شيءٍ. هذا هو القصد الإلهيّ المنشود، والذي كان في فكر الله قبل خلق الكون، هذا الإكتمال المُعدّ. كلُّ ما هو مخلوق قد جاء إلى الوجود لأجلِ هذه الغاية، أمَّا الغاية ذاتها فلم تأتِ للوجود بسبب أي شيء مخلوق.] (٤)
القديس مكسيموس المُعترف
على السرّ الكونيّ للمسيح (Ad Thalassium 60)
الآب خلق العالم بكلمته علشانك، علشان يتواصل ويتحاور معاك بكلمته، والحوار ده مكمنه هو التجسد ذاته. التجسد هو الحوار الإلهي-الإنساني. كل سر إلهي غامض أو معتم للعقل، بينكشف لما بيسطع النور الإلهي في القلب.
في الأجزاء الجاية، هنناقش أكتر مفهوم الحوار الإلهي-الإنساني من منظور أرثوذكسي وكيفية رؤية الله ومعرفة كلمته، في مقابل منظورات أخرى زي الوحي الإملائي مثلا.
المصادر:
(١) بشارة القديس يوحنا، إصحاح ١٤، عدد ٦
(٢) القديس بولس، رسالة كولوسي، الإصحاح الأول، أعداد ٢٦-٢٨
(٣) بشارة القديس يوحنا، إصحاح ١، عدد ١٤
(٤) القديس مكسيموس المُعترف، على السرّ الكونيّ للمسيح (Ad Thalassium 60)