تنقضي صنوف المعاناة، ولكن يظل أثر ما عانيناه باقيًا معنا دائمًا. كل تجربة تثرينا حتى لو كان هذا الإثراء نفيًا للتجربة ، ، ، عندما نتغلب على تجربة الشك وننتصر عليها تُفضي بنا إلى إيمان أسمى ، ، ، بعد تجربة الثورة لا يمكنني أن أعود إلى حالة ما قبل الثورة ، ، ، بعد …

تنقضي صنوف المعاناة، ولكن يظل أثر ما عانيناه باقيًا معنا دائمًا. كل تجربة تثرينا حتى لو كان هذا الإثراء نفيًا للتجربة ، ، ، عندما نتغلب على تجربة الشك وننتصر عليها تُفضي بنا إلى إيمان أسمى ، ، ، بعد تجربة الثورة لا يمكنني أن أعود إلى حالة ما قبل الثورة ، ، ، بعد اختبار الحرية لا يعود بوسعي أن أقبل شيئا بفعل الضرورة ، ، ، يجب على العالم والإنسان أن يختبرا تجارب عظيمة. هذا هو الطريق”.

– برديايف

 

أتذكر من كام سنة تابعت حوار بين صديقين بيناقشوا بعض أفكار نيتشه، فالأول بيشرح للتاني فكرة نيتشه عن الإنسان الأعلى وبعد ما خلص راح التاني جاوبه الإجابة دي: “أيوة، بس الفكرة دي ممكن الأرثوذكسية تواجهها بفكرة تألُّه الإنسان، وفكك من نيتشه يعني مش هيزودلك حاجة على اللي عندك”.

بغض النظر عن نيتشه وأفكاره، واللي هي مش اهتمامي حاليا، لكن أنا مهتم جدًّا بموقف الصديق التاني- اللي واضح طبعا انه مفهمش مغزى فكرة نيتشه كويس بس دا مش موضوعنا بردو- وعاوز أناقشه لإنه جَسَّد في عبارته الموجزة دي أغلب الموقف الديني التقليدي في التعامل مع الأفكار الموجودة خارج أسوار الكنيسة. الموقف التقليدي المنقسم بين اللي بيتعاملوا مع الأفكار بتعالي، على انها مش هتزودلك حاجة زي ما قال، أو اللي بيتعاملوا معاها على انها إغواء، كلاهما موقف قاتل للإيمان وحركيته وجدليته المستمرة.

الفكرة الغلط اللي بيفترضها موقف “وفكك من نيتشه مش هيزودلك حاجة على اللي عندك” هي التعامل مع محتوى الإيمان على انه شوية إجابات جاهزة نهائية بتمنعك من استكشاف الحياة. بيبقى كل اللي عليك هو انك تقول أؤمن وخلاص كدا مفيش حاجة تاني ممكن تعملها أو تعيشها أو “تزودها” على اللي عندك.

الحقيقة أنا مش بتعامل مع تقليد الكنيسة الأرثوذكسية، بكل زخمه، على إنه بيديني إجابة نهائية جازمة قاطعة لأي شيء. ولا بتعامل مع العقايد بالطريقة دي. دا مش لنقص في إيماني لكن لإن مفيش إيمان حي وحقيقي بيعمل في صاحبه كدا. لإنه لو عمل كدا يبقى بيجهض إمكانية السؤال وبالتالي بيقفل الباب قدام الاختبار الشخصي وبيشِل ديناميكية الحياة وبيفضي بيها للتكلس والتحجر.

الأرثوذكسية بالنسبالي مش إجابة نهائية كد ما هي نقطة إنطلاق، أُفُق بستكشف منه الحياة. والشرعية اللي بياخدها أي معتقد فعلا بتيجي من مدى الحرية اللي بيديهالك انك تتحرك في ظله بدون ما يفرض عليك أي قيود. الإيمان الحي هو اللي يعزز شخصانيتك وتمايزك مش يخليك مجرد نقطة ماية وسط بحر الجماعة.

الطريق الروحي، في الأساس، مغامرة. دعوة لاستكشاف الذات وتَلَمُّس الحياة. أشهى خبرة في الوجود هي الحرية الناتجة عن تلامسك مع ذاتك الجُوَّانية. الطريق نحو الله هو طريق جُوًّاني، حركة نحو الذات في الأساس. وفي الأرثوذكسية، ارتبطت دايما معرفة الله بمعرفة الذات. مش كلحظتين مختلفتين أو متتابعتين لكن كلحظة واحدة هي تَجَلِّي وقمة الاتنين. مع أول إشراقات النور الإلهي وبداية معرفة الله انكشفتلي حقيقتي الأبدية الحرة وأصلي الإلهي ودعوتي الإبداعية لمشاركة الله في خلق العالم. وفي عز اللحظات اللي كنت منتعش فيها بدعوتي الإبداعية، وبجمال الخليقة والكائن المخلوق، كان قلبي بينبض بحضور معطي الحياة وواهبها. الاتنين لحظة واحدة.

معرفة الله، في الأساس، هي لحظة إشراق بتخليك تتلامس مع ذاتك الحقيقية. وهي لحظة نداء ودعوة للإنطلاق والإشتباك مع العالم وتلمس اللوغوس أينما تجلَّى. أنا لما دوقت ربنا قلبي ارتوى لكني عطشتله أكتر على كد ما دوقته. واشتقت لنفسي أكتر لإني اشتقت للحياة أكتر وأكتر. في ضوء النور الإلهي حسيت اني مدعو لتذوق المزيد من الحياة. حسيت ان ربنا دعاني للحرية والإبداع. حسيته بيناديني إني أخرج ومخافش أشتبك مع العالم ومع أفكاره. يمكن في ناس بتختبر الله بشكل مختلف. بتختبره كعُزلة. لكني مختبرتهوش كدا. انا اختبرته كلحظة ثورية، كدعوة للانطلاق والاستكشاف والاشتباك الحر مع العالم.

والحقيقة معرفتي لنفسي لم تتوقف عند لقائي الأول بالله. منكرش أبدا انه كان اللقاء الأهم لكنه مش الوحيد. اتعرفت على نفسي كمان في لقائي بالآخر، بالإنسان الآخر. لما بتقرا لمفكرين وتنجذب لأفكارهم فانت بتنجذب لميل مدفون جواك لقيت امتداده فيهم. انت بتتعرف على نفسك في مرايتهم. بتشوف نفسك في اشتياقاتهم. الآخر ضرورة لمعرفة الذات. حتى لما بتنفر منه بتتعرف على نفسك بطريقة تاني. بتعرف انت بتحب ايه فعلا وعاوز ايه وايه الأفكار اللي بتعزز علاقتك بذاتك وبالعالم بل وبالله نفسه.

دا غير ان إيماني بعد ما طرحت الأسئلة مختلف عنه قبل ما أطرح الأسئلة. إيماني بعد ما اتعرفت على فلسفات مختلفة أوقدت ذهني غير إيماني قبل. إيماني بعد تجربة الشك غير إيماني قبلها. لا يمكن انت وبتجتاز خبرة جديدة وعاوز تطلع منها انك تعرف تطلع من نفس الباب اللي دخلت منه وترجع لنفس النقطة الأولى اللي انطلقت منها. لا يمكن بعد ما اتعرضت لأفكار من اللي بيعتبروها “مُغوية”، خصوصا لو انت من الناس اللي بتتعامل مع الأفكار بجدية، انك تعرف ترجع لنقطة ما قبل التعرض للأفكار دي. الخروج بيتم من داخل الفكرة. لازم تجتاز التجربة للنهاية وتلاقي مخرج من جواها من على الناحية التانية. وبينتج عن حالة الجدل والاختبار دي فهم أعمق للذات وتناول الإيمان بروح مختلفة تماما واللي بيخلي حياتك الوجدانية تكتسب زخم وعمق مكانش عندك قبل كدا.

 

جزء رئيسي من مشواري في معرفتي بنفسي كان تعرفي على السيكولوجي. الخطاب الديني التقليدي لإنه خطاب أخلاقي في الأساس، يعني مش بيهتم كتير بالخطاب الأرثوذكسي عن الكينونة وطريق الاتحاد بالله، فتلاقيه بيغير جدا من العلوم النفسية أو بيذكرها باستعلاء. والحقيقة عنده حق. ما تعلمته من جابور ماتيه أو إيريك فروم أو غيرهم يغنيني جدا عن كل الوعظ الديني وغير الديني اللي سمعته في حياتي. لو لم يكن في الأرثوذكسية شيء سوى مجرد خطاب أخلاقي بيقولك اعمل ايه ومتعملش ايه كان نسفها كتابين تلاتة لفروم. لكن الأرثوذكسية، في جوهرها، دعوة للاستنارة بالنور الإلهي والانفتاح على العالم الروحي. متقدرش تختزل الإنسان في مجرد عملياته النفسية مهما كانت سوية. ومهما كان الإنسان عارف يرتبط بشكل سوي مع الآخر والعالم هيفضل في القلب نزوع للعلو وتجاوز الذات لا تشبعه سوى خبرة روحية حقيقية. الوَجْد والاشتياق وشرارة العشق الإلهي اللي بتنتج من إشراق النور الإلهي مش مجرد خبرة نفسية. داخل وجداني اختبرت تقاطع المجالين الروحي والنفسي. لكن كمان عرفت انهم مش واحد. هما طبعا بيأثروا في بعض لكن لا يمكن اختزال الواحد للآخر. الخبرة علمتني ان تكوين الإنسان الوجداني أعقد من كدا. وعلمتني انه لا تستطيع العلوم النفسية، مهما زودتني من بصيرة، أن تنيرني روحيا أو أن تشعل في قلبي شرارة العشق الإلهي. ودا لإن الاستنارة هي من عمل النعمة الإلهية. لكن الخبرة بردو علمتني ان الله يُمكِن أن يشرق بنوره في قلبي في ظل مشاكلي وعقدي النفسية وفي ظل ارتباك مشاعري وتروماتي. ويفضل على عاتقي بردو مسئولية تحرير نفسي من المشاكل دي.

لا أنكر أبدًا أن النور الإلهي كشفلي الكتير عن نفسي لكن مقدرش أقول أنه كشفلي كل حاجة. أقدر أقول انه روى عطشي لتذوق الحياة في ملئها وأنه غذَّاني بالمعنى وخلصني من حيرة وأزمة وجودية عَسِرَة. لكن مقدرش أقول انه كان الجواب النهائي لكل شيء والحل لكل المشاكل. على الإنسان أن يعمل. الموضوع عامل زي لما تكون تايه وسط الصحرا وفجأة تلاقي خريطة للخروج. الاستنارة بوصلة لكنها مستنياني أنا أتحرك. الاستنارة غرست فيا بوصلة وميل لكل ما هو نابض بالحياة. وعليا اني استرشد بيها للغوص داخل أعماق نفسي بالبصيرة اللي بتقدمهالي العلوم النفسية.

دا عشان الحقيقة ليها طرفين. الله ينير وأنا أستقبل نوره. فخبرتي مش معتمدة بس على اللي الله بينوره داخل قلبي لكنها معتمدة كمان على حالتي النفسية والفكرية. كل ما بتتحرك في الحياة أكتر وكل ما تجربتك الإنسانية بتتوسع كل ما معرفتك بذاتك بتتعمق وطريقة استقبالك للنور الإلهي وتعاطيك مع إيمانك بتختلف. الإيمان الحقيقي هو اللي يحافظ على حالة الحركة دي ويعززها أكتر وأكتر لإنه بكدا بيعزز علاقتك بنفسك أكتر.

الموضوع عامل زي القوس والسهم. كل ما يكون إيمانك مش بيهتم بالسياقات الضيقة وكل ما يكون بيخاطب الإنسان في عمق مشاكله الوجودية دا بيديله مرونة انه يخليك تتمدد لأقصى درجة فيخليك تنطلق لأقصى نقطة ممكنة وتخترق أقصى أعماق الحياة بحرية.

والحقيقة اني مش بعتبر ان الأرثوذكسية هي الرافد الوحيد اللي بتشكل منه. أرثوذكسيتي المبدأية اللي انطلقت منها اتعشقت في تروس الفلسفات والمعارف اللي اتعرفت عليها وبِقْيِت أكثر زخمًا وغنى. بعتبر نفسي إنسان متعدد الروافد. مش بس الأرثوذكسية تقدر تضيف للعالم لكن معارف العالم كمان ممكن تتعشق في تروس الأرثوذكسية وتغنيها بإنها توسع فهمها لنفسها. العالم مش مكان قاحل وخالي من نعمة الله. الله الحي الحاضر في الأرثوذكسية حاضر أيضًا خارج الأرثوذكسية في كل شيء ينبض بالحب أو الحرية أو الإبداع. وأنا كل اللي بقيت بعمله هو اني بخرج أَتَلَمَّسُه.

برا الكنيسة لقيت ناس عطشانة لله زيي وأكتر مني. لقيت فلاسفة عذبتهم أسئلة مكانتش تخطر على بالي. أسئلة كانت أشبه بالأتون اللي نقَّى إيماني المبدأي من أي سذاجات عالقة بيه وأعطاه أبعاد أكثر عُمقًا وخصوبة. دا غير اني لقيت كمان ناس عارفة تتذوق الحياة أحسن مني ألف مرة. دا لإن الطريق إلى الله يتعدد بعدد السالكين إليه. فمش غرضي أبدًا من دعوة الناس للخروج من داخل أسوار الكنيسة الفكرية هي انك تطلع برا عشان ترد على حد ولا عشان يكون عندك بعد كدا رد على حد. الاتيتيود الدفاعي دا بيفقدك شخصانيتك. أنت مدعو للحياة. احنا جايين هنا عشان نعيش الحياة بكل ملئها ونتذوق الحب والحرية والجمال ونشوة الإبداع. الخروج مش دعوة للدفاع عن شيء إنما دعوة للحياة ولمزيد من الحياة. الإبداع دعوة إلهية، وأول حاجة ممكن تبدعها هي ذاتك. شخصيتك منتج إبداعي بينتج بالجدل الحي مع الحياة اللي ربنا دعانا نعيشها. دي طبيعة الحياة اللي ربنا حددها. هذا هو الطريق!

 

في سعي الإنسان إلى الله سعي إلى نفسه وإنسانيته ذاتها.

– برديايف

الوسوم:

التعليقات

  1. نهال

    2025-06-12 at 11:04 م

    على قدر سعادتى بالحركة الإيمانية عندكم، على قدر قلقى المتزايد بأن يدعونكم (الغنوسيون الجدد)
    و على الرغم من أننى مسيحية المنشأ و العقيدة إلا أن كثرة المعرفة و القراءة تضع في قلبي الكثير من الشكوك ..
    واحيانا اجد صعوبة فى إثبات عقيدة التجسد (أن المسيح اتخذ جسدا وصلب وقام فى ملء الزمان) خاصة أن الأدلة التاريخية على شخص المسيح لا يوجد لها مصادر سوى الكتاب المقدس (وهو ما ينكره علينا مثلاً الملحدون أو اللاادريون أن يكون هذا هو مصدر الاثبات فقط )
    النقطة الهامة الاخرى، ان فكره الفداء والصليب كعقيده ثابتة عندنا .. كان هدفها تقديم كفارة عن خطية ادم و بنيه ، فهل الاكل من شجرة معرفة الخير و الشر خطية ؟ هل المسيحيه تعتبر المعرفه نوع من انواع الخطيه؟ وان كانت المعرفه ليست خطيه فما هو الداعي من الاساس للفداء والصليب !!
    اخيرا انا اشكركم على وجودكم واتمنى ان اجد لديكم بعض الاجابات التي تساعدني في الوصول الى المعنى الاقرب للحقيقه

    Reply

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *