لو سألت أي واحد من آباء الكنيسة الكبار في تاريخ المسيحية عن قيمة كل الإبداع الإنساني ده على مر التاريخ من فلسفة وأدب وفن وكل الاكتشافات العلمية والسيكولوجية والطبية وكل الحضارة البشرية دي؛ لو سألته ايه قيمة كل ده بالنسبة للإنسان؟ ايه قيمة كل ده في ضوء الإسخاتولوجيا المسيحية والمعنى الأخير للتاريخ؛اللي هو ملكوت السماوات، …
لو سألت أي واحد من آباء الكنيسة الكبار في تاريخ المسيحية عن قيمة كل الإبداع الإنساني ده على مر التاريخ من فلسفة وأدب وفن وكل الاكتشافات العلمية والسيكولوجية والطبية وكل الحضارة البشرية دي؛ لو سألته ايه قيمة كل ده بالنسبة للإنسان؟ ايه قيمة كل ده في ضوء الإسخاتولوجيا المسيحية والمعنى الأخير للتاريخ؛اللي هو ملكوت السماوات، فالحقيقة انه لو صادق مع نفسه هيقولك: الصراحة ملوش أي قيمة!
ممكن نلف وندور على السؤال ده بطرق كتير أبرزها بإننا نقول: بس المسيحية عمرها ما حَرَّمت الإبداع. ودا حقيقي فعلا. هي عمرها ما حرمت الإبداع بشكل مباشر، لكنها في قرارة نفسها وفي وعيها الباطن على مر التاريخ عمرها ما أقرت بأي دعوة إلهية أخرى للإنسان غير طريق النسك والزهد وترك العالم! لكن عمرها ما أقرت صراحة بحمل مسئولية العالم!
أقرت صراحة بغلبة العالم عن الطريق النسك لكنها عمرها ما أقرت ولا ناقشت غلبة العالم عن طريق الإبداع بكونه كشف عن صورة الله في الإنسان.
برديايف بيقَطّع بطاقته كالعادة بس بيقول كلام يتقل بالدهب: “” ما الذي يعنيه بالنسبة للوعي المسيحي وجود العباقرة والشعراء والفنانين والفلاسفة والعلماء والمصلحين والمكتشفين والمشغولين بالعملية الإبداعية قبل أي شيء آخر؟ يستحيل التخلص من هذا السؤال بسهولة بالقول بأن المسيحية لا تنفي على الإطلاق العلوم والفلسفات والفنون والحياة الاجتماعية . . . إلخ. هذا السؤال أعمق بدرجة لا تقاس من السؤال المتعلق بعمق الميتافيزيقا المسيحية ووعيها العقائدي. ألا يمثل الإلهام الإبداعي خبرة روحية إيجابية وكشفًا للدعوى الإيجابية للإنسان؟ أينتظر الله إبداعا من الإنسان ومأثرة إبداعية؟ لا يمكن السماح بالإبداع أو تحريمه وحسب، بل يجب أن يتم تبريره إيجابيا ودينيا. إذا صار الإنسان خالقا عظيما لمجرد أنه لا يستطيع بسبب ضعفه الخطَّاء أن يمضي في طرق القداسة؛ فمن شأن ذلك أن يدين الإبداع، ومن ثم لابد أن يتم تجنبه. إذا صار الإنسان شاعرا أو فيلسوفا لمجرد أنه بسبب خطيته وضعفه لا يمكن أن يسلك الطريق الحقيقي الوحيد؛ طريق الزهد والقداسة، لابد حينها من إدانة الشاعر والفيلسوف أمام الوعي المسيحي، ولابد من تجنب عملهما الإبداعي بوصفه انحلالا ولغطا وخواء.””
أعتقد ان الفقرة اللي فاتت دي بتلخص عمق رؤية برديايف النقدية، لإنك لما تقر ان أسمى دعوة هي الزهد والنسك فأنت بشكل غير مباشر بتدين الإبداع. لإن المبدع رايح يبدع عشان مش قادر على طريق النسك والزهد وترك العالم وهو كده في مرتبة أدنى مهما حاولت تجملها
عبقرية برديايف بالنسبالي بتكمن في نفاذ بصيرته بتحليله لطبيعة الفعل الإبداعي نفسه، واللي من خلاله قدر يستدخل الإبداع للطريق الروحي بإنه يكشف انه مبرر من داخله ومش محتاج تبرير خارجي من الوعي الديني، ودي ممكن تكون أذكى حتة في رؤيته للإبداع. برديايف بيساوي بين طريق الزهد من جهة وطريق الإبداع من جهة أخرى. بل أقدر أقطع بطاقتي واقول انه بيشوف ان طريق الإبداع أنسب لعصرنا من طريق الزهد. الاتنين بيشتركوا في “غلبة العالم” بشكل ما والاتنين محتاجين ضبط النفس بشكل ما. نشوة الإبداع هي خبرة روحية بالنسبة لبرديايف زيها زي نشوة التصوف، خبرة ليست من هذا “العالم”، خبرة من لدن النعمة الإلهية. صحيح بيشوف ان التصوف هو قمة الطريق الروحي لكنه مش بيعمل كدا على حساب الإبداع. هو بيشوف التصوف والإبداع انهم لحظتين مختلفتين على الطريق الروحي. وان كل إنسان مدعو دعوة مختلفة ومتميزة. وزي ما الوعي المسيحي “القديم” كان بيغلب العالم بالزهد والنسك فاحنا محتاجين في عالمنا “المعاصر” الأكثر تعقيدا اننا نغلبه بالإبداع.
الحكمة والبحث عن الحق والجمال والخير كلها غايات بتمثل أصلا في جوهرها عطش الإنسان لله وبطبيعتها بتتطلب الترفع عن دناءة العالم بشكل ما. الشخص المبدع بيضحي بردو وبيضع هدف إبداعه فوق نفسه. الإنسان في عيون أغلب -وإن لم يكن كل- آباء الكنيسة مخلوق عشان يتطهر من الخطية ويتقدس وبس كده خلاص، معندناش كلام تاني نقوله. برديايف بيشوف ان الأنثربولوجيا الآبائية “السلبية” دي؛ اللي مش بتكشف عن دعوة الإبداع، عفى عليها الزمن. العالم انهاردة أصعب بكتير وبقى محتاج ناس مبدعين وروحانيين بنفس الوقت. العمل الإبداعي كشف عن صورة الله في الإنسان. الإنسان مبدع كخالقه. الله أعطانا العقل والحرية عشان نشاركه في خلق العالم. الله ينتظر من الإنسان الإبداع والحرية. الإبداع نداء إلهي. وهو طريق الكشف عن كرامة صورة الله في الإنسان.