تناول الكثيرون خلال اليومين الأخيرين قضية تأبين الفنان اللبناني الكبير زياد الرحباني في إحدى الكنائس (الأرثوذكسية) في لبنان. زياد (وأنا هنا أذكر اسمه الأول تيمّناً بالطريقة التي يتكلم بها عنه محبّوه) كان معروفاً كعضو في الحزب الشيوعي اللبناني، كشخص "غير مؤمن" بالشكل التقليدي والتاريخي المعروف. تفاصيل علاقة زياد بالكنيسة والدين يمكن العودة إليها من خلال …
تناول الكثيرون خلال اليومين الأخيرين قضية تأبين الفنان اللبناني الكبير زياد الرحباني في إحدى الكنائس (الأرثوذكسية) في لبنان. زياد (وأنا هنا أذكر اسمه الأول تيمّناً بالطريقة التي يتكلم بها عنه محبّوه) كان معروفاً كعضو في الحزب الشيوعي اللبناني، كشخص “غير مؤمن” بالشكل التقليدي والتاريخي المعروف. تفاصيل علاقة زياد بالكنيسة والدين يمكن العودة إليها من خلال عدد من تصريحاته، وهي ليست القضية هنا، بل علاقة الكنيسة (المؤسسة الدينية) بزياد ونظرائه من الفنانين الذين يولدون في عائلات “مسيحية” ثم يعلنون في مرحلة ما من حياتهم أنهم غير مؤمنين، أو لا يؤمنون على الأقل بالديانة التي تقودها المؤسسة الدينية.
فهل في تأبين زياد في كنيسة “استرداد” قسريّ لشخص أراد لحياته أن تكون متحررة من أيّ قالب دينيّ معيّن ومتحررة أيضاً من مؤسسة لها ما لها وعليها ما عليها في اشتباكها مع السلطة والقوة والسياسة ورأس المال؟
ربما. الأمر يتعلق بتفاصيل كثيرة، بعضها مرتبط بإرادة الشخص الراحل نفسه ووصيّته، إن وُجِدت، وأيضاً بإجراءات الجنازة والتصريحات و”العظة” التي يمكن للمراقب أن يفسّرها بعدد من الطرق. التصريحات الإيجابية للمطران سلوان موسى في جنازة زياد، وتصريحات كهنوتية أخرى عنه تنظر إليه “بمحبّة” على أنّه “الابن الضال” تقدّمان صورتين متداخلتين على الرغم من تباينهما.
في كل الأحوال فإنّ الاحتفاء “المسيحي” بزياد أمر مهم، ليس لأنّه يمنح الراحل الكبير أهمية. زياد كفنّان وشخصية عامة ليس بحاجة إلى اعتراف مؤسساتيّ من أحد، وليس بالتأكيد بحاجة إلى حكم قِيَميّ نابع من رؤية دوغمائية. ولكن الاحتفاء الكَنَسيّ، أو من بعض شخصياتها المعروفة، بفنّه وبما قدمه للمجتمع والشعب والأشخاص على اختلافهم يمنحنا نحن، المراقبين، الأمل بأنّ المؤسسة الدينية، أي الكنيسة بوصفها كياناً تاريخياً، يمكن أن تتجاوز نفسها بشكل أو بآخر؛ تتجاوز نفسها ليس على مستوى التصريحات فحسب، ولكن معرفياً ولاهوتياً. ربما نقول إنها ستكون مجبَرة على التفكير الجدّيّ بقيمة الفنّ “العلمانيّ” أو “اللاييكيّ” ودوره المحوري في الحياة الروحية للإنسان.
وحتى مع استدعاء رمزية “الابن الضالّ”، فربما حان الوقت أنّ نقرأ القصة من زاوية أخرى مهمَلة، وهي أنّ الأب أيضاً كان “تائهاً” من دون ولده. لا يمكن الزعم أن حياة الأب كانت كاملة من دون ابنه الذي غادر البيت وذهب لاكتشاف العالم. ألم تصبح حياة الأب أغنى بعد عودة ابنه؟ ألم يتعلّم الأب أشياء كثيرة عن نفسه وعن الحياة خلال سنيّ غياب ابنه عنه؟ هل غيّر آراءه مثلاً في مسائل معينة؟
هل تعلّمت الكنيسة، أو يمكن أن تتعلّم، شيئاً ما من حياة زياد الرحباني وأمثاله من الفنانين وذوي الرسالات “العلمانية”؟ أتكلم عن الكنيسة مع تركيز خاص على المنطقة الناطقة بالعربية بشكل خاصّ، ولكن ليس حصرياً أيضاً.
لا شكّ في أنّ تصريحات المطران سلوان أثناء الجنازة تحمل بعداً عزائياً اجتماعياً ووطنياً وليس لاهوتياً محضاً، ولكن اعترافه بالرؤية العميقة التي امتلكها زياد وكفاحه لتناول آلام الناس بدلاً من الجلوس والشكوى يحمل أيضاً بعداً مسيحانياً، إن صحّ التعبير. فهذا الانشغال بآلام الناس على مختلف الأصعدة مهمة سامية، حتى، بل بشكل خاص، بالمفهوم اليسوعانيّ للعمل والتضحية من أجل بشرية جديدة ومن أجل إراحة الناس من آلامهم، الذهنية والروحية قبل الجسدية منها. ومن لا يفرح كل الفرح حين يهمس له أخ أو أخت، صديق أو صديقة، بأنّه أنقذه أو أنقذها من حالة ذهنية أو معرفية-روحية مميتة؟
كتبت عام 2014 في مقالة بعنوان “علم اللاهوت كبوابة للفنّ”:
“إنّ الفنّ هو الرّوح الجمالية التي تتولّد في نفس مَن يُلاحِق الشعور باللاتناهي والمعاني الخفيّة في الموجودات ونظامها الكوني، ويحاول إدراك حقيقة انسجامها وجماليّتها ومعاني حركاتها ووجودها في حدّ ذاته.“
ولكن اليوم يمكن أن أقول “إنّ التفكير اللاهوتي هو الروحانية الجمالية التي تتولّد في نفس من يلاحق الشعور باللاتناهي…”
وحين كتبت أنّ “التعمُّق في علِم اللاهوت، إن كان حُرّاً شُجاعاً، فهو ليس إلّا الانفتاح على هبّات الرّوح الأسمى، وانتظاراً شَغوفاً مؤمناً بالأنوار العُلويّة التي لا تبخل على منتظريها.” كان يمكن أن أكتب أنّ “التعمّق في الفنون، إن كان حرّاً شجاعاً، ليس إلا الانفتاح على هبّات الروح الأسمى…”
لا أستطيع فصل التفكير اللاهوتي عن الفنّ، الشعر، التشكيل، والكتابة الفنية، وكافة أنواع الإبداع المخلص والحقيقي، الصامت منه والعلنيّ.
كيف يمكن الزعم أنّ الفنان في نضاله اليومي للحفر في أعماق الحياة اليومية للإنسان وفي كفاحه الهرقليّ لفهم أنماط العيش وأشكال القوة والانتهاكات المرئية وغير المرئية التي تتعرض لها الحياة الإنسانية — كيف يمكن الزعم أنّ الفنان في هذا النضال والكفاح بعيد عن الاشتباك مع الروح الخلّاقة في هذا الكون، لا بل عن الامتلاء بها. إنكار أمر كهذا يعني إنكاراً للحياة وإنكاراً لمعنى كلّ عمل بشريّ في الشارع والحقل والمدرسة والمختبر وورشة العمل والمصنع والغرف المنزوية والعلّيّات أو الأقبية الباردة؛ سيكون هذا إنكاراً للقيمة الأبدية حتى لسهر الليالي من أجل قضية محقّة أو فكرة نطاردها وبالكاد نلتقط ألوانها الأولى ومناخاتها المتبدّلة. سيكون هذا صُلب العدميّة التي يقول المؤمنون إنهم يحاربونها.