ماهية الغضب الإلهي غير المدرَكة يشير ق. كيرلس إلى أن الجوهر الإلهي غير خاضع للأهواء البشرية مثل الغضب، ويوضح أن غضب الله يكون بالطريقة المعروفة لنفسه فقط وبطريقة طبيعية بالنسبة لذاته وحده، لأن طرقه لا يمكن النطق بها على الإطلاق كالتالي: ”حينما يريد الكتاب الإلهي أن يعبر عن غضب الله ضد الخطط الشريرة من أي …

ماهية الغضب الإلهي غير المدرَكة

يشير ق. كيرلس إلى أن الجوهر الإلهي غير خاضع للأهواء البشرية مثل الغضب، ويوضح أن غضب الله يكون بالطريقة المعروفة لنفسه فقط وبطريقة طبيعية بالنسبة لذاته وحده، لأن طرقه لا يمكن النطق بها على الإطلاق كالتالي:

”حينما يريد الكتاب الإلهي أن يعبر عن غضب الله ضد الخطط الشريرة من أي نوع، فهو يقتبس الكلمات من التعبيرات المستعمَلة بيننا، ويتحدث عن الغضب بعباراتٍ بشريةٍ؛ رغم أن الجوهر الإلهي غير خاضع لهذه الأهواء بأي طريقة يمكن مقارنتها بمشاعرنا، ولكنه يتحرك بالسخط بالدرجة المعروفة لنفسه فقط، وبطريقة طبيعية بالنسبة لذاته وحده، لأن طرقه لا يمكن النطق بها على الإطلاق. ولكن الكتاب الإلهي، كما قُلنا، يسجل أشياء أعلى بكثير من قدرتنا البشرية“.[1]

رفض الانفعالات الناموسية القانونية

ويعترض ق. كيرلس على انفعال بطرس الرسول على عبد رئيس الكهنة، مؤكدًا على أن المسيح جاء ليعطينا تعليمًا أسمى من الناموس، ولكي يصلحنا ويحولنا إلى وداعة قلبه، وهكذا يلوم المسيح الانفعالات التي بحسب الناموس، والتي لا تتوافق مع الكمال اللائق بالفضيلة الحقيقية كالتالي:

”لذلك فإن انفعال بطرس كان مشروعًا بحسب القوانين القديمة؛ ولكن ربنا يسوع المسيح حينما جاء ليعطينا تعليمًا أسمى من الناموس، ولكي يصلحنا ويحولنا إلى وداعة قلبه، يلوم تلك الانفعالات التي بحسب الناموس، على أنها لا تتوافق مع الكمال اللائق بالفضيلة الحقيقية. لأن الفضيلة الكاملة لا تكون بمجازاة الفعل بمثله، بل بالحري تظهر في الترفق الكامل“.[2]

غضب الله المربي والمفيد للبشرية

ويشير ق. كيرلس إلى أن غضب الله لم يمنعه من أن يربي ويفيد البشرية بطرق متنوعة، وأنه بإضافة المتاعب والمشقات يكبح جماح أولئك الذين تم تضليلهم وينقلهم إلى ما يفيدهم كالتالي:

”لكن بالإضافة إلى هذا، لاحظ أن غضب إله الكل في هذه الحالة، لم يمنعه من أن يربي ويفيد بطرقٍ متنوعةٍ، وأنه بإضافة المتاعب والمشقات يكبح جماح أولئك الذين أُضِلوا وينقلهم إلى ما يفيدهم“.[3]

وهكذا يؤكد ق. كيرلس على أن الله لا يريد أن يُعرَف بأنه يفكر في الشر، وأنه يمد غضبه حتى يشمل الجيل الرابع، لأنه كيف يكون طويل الأناة وكثير الرحمة، أو كيف يغفر المعاصي والخطايا، إن كان لا يستطيع أن يجعل العقوبة محصورة في الشخص المخطئ، فمن الحماقة تمامًا أن نفترض أن الله مع محبته ولطفه بالبشر، يخص نفسه بالغضب المستمر وغير المعقول. وهكذا يدحض ق. كيرلس أولئك القائلين بوراثة العقوبة من الآباء إلى أبنائهم حتى الجيل الرابع قائلاً:

”ولهذه الغاية فهو يعلن أن: ’الرب طويل الروح وكثير الإحسان، يغفر الذنب والسيئة‘ (عد 14: 18). ولذلك فهو لا يريد أن يُعرَف بأنه يفكر بالشر، وأنه يمد غضبه حتى يشمل الجيل الرابع. لأنه كيف يكون طويل وكثير الرحمة، أو كيف يغفر المعاصي والخطايا، إن كان لا يستطيع أن يجعل العقوبة محصورة فقط في الشخص الذي أخطأ، بل يمدها إلى ما بعد الجيل الثالث، فيكون بذلك كنوع من الرعد الذي يصعق حتى البريء. إذًا، فإنه مما لا يُصدَق بالمرة ومن الحماقة التامة أن نفترض أن الله، مع محبته للبشر ولطفه، يخص نفسه بالغضب المستمر وغير المعقول“.[4]

كما يوضح ق. كيرلس أن الله بطيء الغضب جدًا نحو آثام الذين يحزنونه بخطاياهم كالتالي:

”وإذ هو بطيء الغضب جدًا نحو آثام أولئك الذين يحزنونه بخطاياهم طبعًا، وإذ هو يفي بوعده للآباء القديسين، فإنه يصعد ليعلمهم ويضع أمامهم تعاليم الخلاص“.[5]

الغضب الإلهي الشفائي

يؤكد ق. كيرلس على أن اليهود بعدم إيمانهم أوقعوا أنفسهم تحت الغضب الإلهي، ولكن الرب كطبيب ماهر يُظهِر ضعفهم من ناحية، ومن ناحية أخرى، يكشف عن سببه، لكي لا يبقوا رازحين تحته، بل لكي يهدئوا غضب رب الجميع الذي حزن كثيرًا لأجلهم لأسباب عادلة كالتالي:

”لم يقل الرب فقط: ’لقد رأيتموني، ولستم تؤمنون‘، لكن كان من الضروري أن يُورِد ذكر السبب في عماهم، ليعرفوا أنهم قد وقعوا تحت الغضب الإلهي. لهذا، وكطبيب ماهر فإنه يُظهِر ضعفهم من جهة، ويكشف عن سببه من جهة أخرى، لا لكي إذا ما علموا بأمره يبقوا رازحين فيه، بل لكي يهدئوا غضب رب الجميع، الذي حزن لأجلهم كثيرًا لأسباب عادلة“.[6]

الغضب الإلهي وحالة الأشرار

ويُعرِّف ق. كيرلس الغضب الإلهي على أنه عذابات الأشرار وعقوباتهم، فهذا هو ما يسميه الكتاب المقدَّس ”غضب الله“، فالغضب الإلهي هو إسقاط على حالة الأشرار في انفصالهم عن الله بالخطية وعدم إيمانهم كالتالي:

”يقول: ’والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله‘. لكن إن كان من الممكن إدراك أن غير المؤمن سوف يُحرَم من الحياة في الجسد، لكان بالتأكيد قد أضاف على الفور: ’بل يمكث عليه الموت‘، لكن حيث إنه يسميه ’غضب الله‘، فمن الجلي أنه يعقد مقارنة بين عقاب الأشرار وتنعمات القديسين، وأيضًا يصف هذه الحالة بكلمة ’الحياة‘، التي هي الحياة الحقيقية في مجدٍ مع المسيح، أما عذابات الأشرار فيسميها ’غضب الله‘، وكثيرًا ما يُسمَى ذلك العقاب في الكتاب المقدس أنه ’غضب‘، وسوف اقتبس من شاهدين؛ بولس ويوحنا المعمدان: إذ يقول الأول للمهتدين من بين الأمم: ’وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضًا‘ (أف 2: 3)، ويقول الآخر للكتبة والفريسيين: ’يا أولاد الأفاعي مَن أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي‘ (مت 3: 7)“.[7]

الإنسان علة الغضب الإلهي وليس الله الغضوب

ويشدد ق. كيرلس على أن الإنسان الذي يهمل وصايا الله الواجبة، ويصير أسيرًا للخطية، هو علة الغضب الإلهي، وليس الله هو المتسبب في ذلك، فهذا غير منطقي تمامًا، فالغضب الإلهي هو عدم شمول عطف الرب لنا، وهكذا لن يكون هناك عائق أمام الخطية يمنعها من تعذبينا بسبب ضعف طبيعتنا، مما يقود إلى سيادة الشر علينا كالتالي:

”بلاديوس: إذًا، هل عندما نهمل وصايا الله الواجبة، ونصير أسرى للخطية، نلقي اللوم على الله، ونشتكي من غضبه، وندَّعي أننا بسبب هذا الغضب أخطأنا؟ كيرلس: بالطبع، لا يمكن أن يكون الله هو المتسبب في هذا؛ وإلا كان ذلك غير منطقي. لكن عندما نفول: ’أنت سخطت إذ أخطأنا‘، نقصد أنه إذا لم يشملنا عطف الرب، فلن يكُن أمام الخطية أي عائق يمنعها من تعذيبنا، وذلك بسبب ضعف طبيعتنا، مما يقود إلى سيادة الشر علينا“.[8]

الغضب الإلهي الممزوج بالوداعة

يشير ق. كيرلس إلى أن غضب الله على العاصين ممزوج بالوداعة، فلم يسمح ناموس الطبيعة -الذي وضعه الله للخلق واستمرار الحياة- بحدوث فساد ودمار شامل عام كالتالي:

”إذًا، لا يسمح ناموس الطبيعة بحدوث فساد ودمار شامل وعام، ولكنه يعلن إن الغضب على العاصين، إنما هو ممزوج بالوداعة، وفي نفس الوقت يستخدم الحرف للمعرفة عن طريق الأمثلة والنماذج. فالكائنات لا تُساق تمامًا نحو العدم، يسودها فساد طائش، لكنها تبقى يتعاقب الواحد من خلال الآخر، والواحد سيخلُص من خلال الآخر قياسًا بالقرابة والجنس اللذان ينتسبان إليهما. هكذا أبعد الله الهلاك الشامل عن مخلوقاته، إذ مكتوب الآتي: ’فإنه خلق كل شيء لكي يكون، وإن خلائق العالم مفيدة وليس فيها سم مهلك، ولا مُلِك لمثوى الأموات على الأرض؛ لأن البر خالد‘ (حك 1: 14)“.[9]

[1] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج 2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرين، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، ص 108.

[2] المرجع السابق، ص 428.

[3] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح سفر هوشع، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020)، تعليق على (هو 2: 7)، ص 79.

[4] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج 1، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرين، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، ص 658.

[5] المرجع السابق، ص 459.

[6] المرجع السابق، ص 374.

[7] المرجع السابق، ص 218، 219.

[8] كيرلس الإسكندري (قديس)، السجود والعبادة بالروح والحق، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017)، المقالة الأولى، ص 46، 47.

[9] المرجع السابق، المقالة العاشرة، ص 424.

الوسوم:

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *